تأثير التكنولوجيا على الصحة النفسية: ما الذي يقوله الخبراء؟
في عالم يتسارع فيه نبض التكنولوجيا وتتداخل خيوطها مع كل تفاصيل حياتنا اليومية، بات من المستحيل تجاهل الأثر العميق الذي تحدثه هذه الثورة الرقمية على صحتنا النفسية. من الهواتف الذكية التي لا تفارق أيدينا إلى منصات التواصل الاجتماعي التي تشكل نافذتنا على العالم (وأحياناً على عوالم الآخرين)، أصبحت التكنولوجيا جزءاً لا يتجزأ من نسيج وجودنا. لكن، هل هذا الاندماج المتزايد يخدم رفاهيتنا العقلية أم يقوضها؟ وما هو رأي الخبراء والمتخصصين في هذا الشأن؟
إن العلاقة بين التكنولوجيا والصحة النفسية ليست بسيطة أو أحادية الجانب؛ بل هي معقدة ومتشعبة، تحمل في طياتها جوانب إيجابية وسلبية على حد سواء. فهم هذه الديناميكية يتطلب منا نظرة فاحصة ومتوازنة، تستند إلى الأدلة العلمية وآراء الخبراء.
الجانب المظلم: عندما تصبح التكنولوجيا عبئاً نفسياً
لا يمكن إنكار أن الاستخدام المفرط أو غير الواعي للتكنولوجيا يمكن أن يلقي بظلاله القاتمة على صحتنا النفسية. يشير العديد من الخبراء إلى مجموعة من التأثيرات السلبية المحتملة، والتي تستدعي الانتباه والحذر.
1. المقارنة الاجتماعية وآثارها على تقدير الذات:
تعتبر منصات التواصل الاجتماعي، مثل إنستغرام وفيسبوك وتيك توك، مسرحاً لعرض أفضل اللحظات والإنجازات في حياة الآخرين. يوضح الدكتور جان توينج، أستاذ علم النفس ومؤلف كتاب "iGen"، أن التعرض المستمر لهذه الصور المثالية والمصقولة بعناية يمكن أن يؤدي إلى شعور بالنقص وعدم الرضا عن الذات لدى الكثيرين، خاصة المراهقين والشباب. فالمقارنة الاجتماعية المستمرة بواقع الآخرين "المفلتر" تخلق توقعات غير واقعية وتغذي مشاعر الحسد والقلق. يضيف الخبراء أن هذا الضغط للمحافظة على صورة مثالية عبر الإنترنت يمكن أن يكون مرهقاً للغاية ويؤدي إلى تدني احترام الذات.
2. متلازمة الخوف من فوات الشيء (FOMO) والقلق المستمر:
الخوف من أن يفوتنا شيء ما – تجربة ممتعة، خبر مهم، أو تفاعل اجتماعي – أصبح ظاهرة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتكنولوجيا. الإشعارات المستمرة والتحديثات اللحظية تجعلنا في حالة تأهب دائم، خوفاً من أن نكون "خارج الدائرة". يؤكد خبراء الصحة النفسية أن هذا الشعور يمكن أن يؤدي إلى مستويات مرتفعة من القلق والتوتر، وصعوبة في الاسترخاء والانفصال الحقيقي عن العالم الرقمي.
3. اضطرابات النوم وتأثير الضوء الأزرق:
أصبحت عادة تصفح الهاتف قبل النوم منتشرة بشكل كبير. يحذر أطباء الأعصاب وخبراء النوم من أن الضوء الأزرق المنبعث من شاشات الأجهزة الإلكترونية يثبط إنتاج الميلاتونين، وهو الهرمون المسؤول عن تنظيم دورات النوم والاستيقاظ. هذا التعطيل يمكن أن يؤدي إلى صعوبة في النوم، وتقطع النوم، وانخفاض جودته بشكل عام، مما يؤثر سلباً على المزاج، والتركيز، والصحة النفسية على المدى الطويل.
4. إدمان الإنترنت والتكنولوجيا:
يشبه بعض الخبراء الآليات العصبية الكامنة وراء إدمان التكنولوجيا بتلك المرتبطة بإدمان المواد المخدرة. فالتفاعل مع تطبيقات معينة أو ألعاب الفيديو يمكن أن يحفز إطلاق الدوبامين في الدماغ، مما يخلق شعوراً بالمتعة والمكافأة ويدفع إلى تكرار السلوك. مع مرور الوقت، يمكن أن يتطور هذا إلى سلوك قهري، حيث يجد الشخص صعوبة بالغة في التحكم في مقدار الوقت الذي يقضيه على الإنترنت أو في استخدام تطبيقات معينة، مما يؤثر على علاقاته الاجتماعية، وأدائه الأكاديمي أو المهني، وصحته الجسدية والنفسية.
5. التنمر الإلكتروني والعزلة الاجتماعية:
على الرغم من أن التكنولوجيا تهدف إلى ربط الناس، إلا أنها يمكن أن تكون أيضاً أداة للعزلة والتنمر. يوفر العالم الافتراضي أحياناً ستاراً للمتنمرين لممارسة سلوكيات مؤذية دون مواجهة مباشرة. يشير خبراء علم النفس الاجتماعي إلى أن التنمر الإلكتروني يمكن أن يكون له آثار مدمرة على الصحة النفسية للضحايا، بما في ذلك الاكتئاب، والقلق، وحتى الأفكار الانتحارية. كما أن الإفراط في التفاعلات الافتراضية على حساب التفاعلات الواقعية قد يؤدي إلى شعور بالوحدة والانفصال، حتى وإن كان الشخص محاطاً بـ"أصدقاء" افتراضيين.
6. الحمل الزائد للمعلومات والإرهاق المعرفي:
نحن نتعرض لكم هائل من المعلومات يومياً عبر الإنترنت ووسائل الإعلام المختلفة. هذا التدفق المستمر للمعلومات يمكن أن يفوق قدرة دماغنا على المعالجة الفعالة، مما يؤدي إلى ما يعرف بـ"الإرهاق المعرفي". يوضح خبراء علم الأعصاب أن هذا الإرهاق يمكن أن يظهر على شكل صعوبة في التركيز، ضعف في الذاكرة، وزيادة في الشعور بالتوتر والإجهاد.
بصيص النور: كيف يمكن للتكنولوجيا أن تدعم صحتنا النفسية؟
على الجانب الآخر، لا يمكن إغفال الدور الإيجابي الذي يمكن أن تلعبه التكنولوجيا في تعزيز الصحة النفسية والرفاهية عند استخدامها بشكل واعٍ وهادف.
1. الوصول إلى المعلومات والموارد الصحية:
أتاحت الإنترنت وصولاً غير مسبوق إلى المعلومات حول الصحة النفسية. يمكن للأفراد الآن البحث عن أعراض معينة، وفهم الاضطرابات النفسية المختلفة، والتعرف على خيارات العلاج المتاحة. كما توجد العديد من المواقع والمنصات الموثوقة التي تقدم محتوى تثقيفياً ودعماً نفسياً.
2. تطبيقات الصحة النفسية والعلاج عن بعد:
شهدنا في السنوات الأخيرة طفرة في تطبيقات الصحة النفسية التي تقدم أدوات متنوعة لمساعدة المستخدمين على إدارة التوتر، وممارسة التأمل واليقظة الذهنية، وتتبع الحالة المزاجية، وحتى تقديم برامج علاجية قائمة على الأدلة (مثل العلاج السلوكي المعرفي). بالإضافة إلى ذلك، سهّلت التكنولوجيا الوصول إلى خدمات العلاج النفسي عن بعد (Teletherapy)، مما يزيل الحواجز الجغرافية والوصمة المرتبطة بطلب المساعدة. يؤكد المعالجون النفسيون أن هذه الوسائل يمكن أن تكون فعالة للغاية، خاصة لأولئك الذين يعيشون في مناطق نائية أو يجدون صعوبة في الوصول إلى العيادات التقليدية.
3. بناء المجتمعات الداعمة والتواصل الاجتماعي:
بالنسبة لبعض الأفراد، وخاصة أولئك الذين يعانون من حالات صحية نادرة أو اهتمامات خاصة، يمكن أن توفر التكنولوجيا وسيلة قيمة للتواصل مع الآخرين الذين يشاركونهم نفس التجارب. مجموعات الدعم عبر الإنترنت والمنتديات المتخصصة يمكن أن توفر شعوراً بالانتماء والتفهم، وتقلل من مشاعر العزلة.
4. أدوات تعزيز الرفاهية الشخصية:
توجد العديد من التطبيقات والأدوات التكنولوجية التي يمكن أن تساعد في بناء عادات صحية، مثل تطبيقات تتبع اللياقة البدنية، وتطبيقات تنظيم الوقت وإدارة المهام، وتطبيقات تعلم مهارات جديدة. هذه الأدوات، عند استخدامها بفعالية، يمكن أن تساهم في تحسين نوعية الحياة والشعور بالإنجاز.
ما الذي يقوله الخبراء حقاً؟ كلمة الفصل
يتفق معظم خبراء الصحة النفسية على أن التكنولوجيا بحد ذاتها ليست جيدة أو سيئة؛ بل إن طريقة استخدامنا لها هي التي تحدد تأثيرها على صحتنا النفسية. المفتاح يكمن في الوعي والتوازن والنية.
-
الوعي: أن نكون مدركين لكيفية تأثير استخدامنا للتكنولوجيا على مشاعرنا وأفكارنا وسلوكياتنا. هل نشعر بالتحسن أم بالسوء بعد قضاء وقت على وسائل التواصل الاجتماعي؟ هل يؤثر استخدام الهاتف ليلاً على نومنا؟
-
التوازن: تحقيق توازن صحي بين الحياة الرقمية والحياة الواقعية. هذا يعني تخصيص وقت للتفاعلات وجهاً لوجه، وممارسة الهوايات غير المتصلة بالإنترنت، والحصول على قسط كافٍ من النوم والراحة بعيداً عن الشاشات.
-
النية: استخدام التكنولوجيا بشكل هادف وبقصد. بدلاً من التصفح العشوائي، يمكننا استخدام التكنولوجيا لتعلم شيء جديد، أو للتواصل بشكل إيجابي مع الأصدقاء والعائلة، أو للوصول إلى موارد مفيدة.
نصائح الخبراء لتعزيز علاقة صحية مع التكنولوجيا:
يقدم المتخصصون في الصحة النفسية مجموعة من الاستراتيجيات العملية التي يمكن أن تساعدنا في تسخير إيجابيات التكنولوجيا وتجنب سلبياتها:
-
حدد أوقاتاً خالية من الشاشات: خصص أوقاتاً معينة خلال اليوم تكون فيها بعيداً تماماً عن هاتفك أو حاسوبك، مثل وقت الوجبات، أو قبل النوم بساعة على الأقل، أو خلال فترات معينة في عطلة نهاية الأسبوع.
-
كن انتقائياً في متابعاتك: قم بتنظيف قوائم متابعيك على وسائل التواصل الاجتماعي. ألغِ متابعة الحسابات التي تجعلك تشعر بالسوء تجاه نفسك أو تثير فيك مشاعر سلبية. ركز على الحسابات التي تلهمك أو تقدم لك قيمة مضافة.
-
عطل الإشعارات غير الضرورية: الإشعارات المستمرة هي أحد أكبر مصادر التشتت والقلق. قم بتعطيل إشعارات التطبيقات غير الأساسية، وتحقق منها في أوقات محددة بدلاً من الاستجابة الفورية لكل تنبيه.
-
مارس "الديتوكس الرقمي" بانتظام: خصص يوماً أو حتى بضع ساعات في الأسبوع للانفصال التام عن التكنولوجيا. استخدم هذا الوقت لممارسة الأنشطة التي تستمتع بها في العالم الحقيقي.
-
استخدم التكنولوجيا بوعي: قبل أن تفتح تطبيقاً ما أو تتصفح الإنترنت، اسأل نفسك: "لماذا أفعل هذا الآن؟ وماذا آمل أن أحقق من خلاله؟"
-
عزز التواصل الواقعي: أعطِ الأولوية للعلاقات والتفاعلات وجهاً لوجه. لا تدع التواصل الافتراضي يحل محل الاتصال الإنساني الحقيقي.
-
اطلب المساعدة المتخصصة إذا لزم الأمر: إذا كنت تشعر بأن استخدامك للتكنولوجيا يؤثر سلباً على صحتك النفسية ولا تستطيع التحكم فيه بمفردك، فلا تتردد في طلب المساعدة من معالج نفسي أو مستشار متخصص.
في الختام، لا شك أن التكنولوجيا قد أعادت تشكيل عالمنا بطرق لا حصر لها، وتأثيرها على الصحة النفسية هو جزء لا يتجزأ من هذه المعادلة. الأمر متروك لنا كأفراد ومجتمعات لنتعلم كيف نتعامل مع هذه الأدوات القوية بحكمة ومسؤولية. من خلال الوعي والتوازن والنية، يمكننا أن نجعل التكنولوجيا قوة إيجابية في حياتنا، تدعم رفاهيتنا بدلاً من أن تقوضها. الاستماع إلى نصائح الخبراء وتطبيقها هو خطوة أساسية نحو تحقيق هذا الهدف، وضمان أن تظل صحتنا النفسية أولوية في هذا العصر الرقمي المتسارع.
يجب عليك تسجيل الدخول لنشر تعليق.