كيف يتم تحديد فصائل الدم؟ دليل شامل لفهم نظام ABO وعامل ريسوس
تعتبر معرفة فصيلة الدم أمرًا بالغ الأهمية في العديد من السياقات الطبية، بدءًا من عمليات نقل الدم الآمنة ووصولاً إلى متابعة الحمل وفهم بعض الاستعدادات الوراثية. لكن، هل تساءلت يومًا كيف يتم بالضبط تحديد هذه الفصائل المختلفة؟ إنها عملية علمية دقيقة تعتمد على مكونات محددة توجد على سطح خلايا الدم الحمراء وفي بلازما الدم. دعنا نتعمق في هذا العالم المجهري لنكتشف أسرار تحديد فصائل الدم.
الأساس العلمي: المستضدات والأجسام المضادة
يكمن مفتاح فهم فصائل الدم في مفهومين أساسيين: المستضدات (Antigens) والأجسام المضادة (Antibodies).
-
المستضدات: هي بروتينات أو سكريات معقدة توجد على السطح الخارجي لخلايا الدم الحمراء. تعمل هذه المستضدات كـ "بطاقات هوية" للخلايا، تميز خلايا الجسم عن أي خلايا غريبة قد تدخل إليه. أهم هذه المستضدات في تحديد فصائل الدم هي تلك التابعة لنظام ABO ونظام Rh (ريسوس).
-
الأجسام المضادة: هي بروتينات ينتجها الجهاز المناعي وتوجد في بلازما الدم (الجزء السائل من الدم). وظيفتها الأساسية هي التعرف على المستضدات الغريبة (مثل تلك الموجودة على خلايا دم غير متوافقة أو على الجراثيم) والارتباط بها، مما يؤدي إلى تدميرها أو تحييدها.
العلاقة بين المستضدات والأجسام المضادة هي علاقة تكاملية محددة، تشبه علاقة القفل والمفتاح. فكل جسم مضاد مصمم ليتعرف على مستضد معين ويرتبط به.
نظام ABO: حجر الزاوية في تصنيف الدم
اكتشف العالم النمساوي كارل لاندشتاينر نظام ABO في بداية القرن العشرين، وهو الاكتشاف الذي أحدث ثورة في مجال نقل الدم وحاز بسببه على جائزة نوبل. يعتمد هذا النظام على وجود أو غياب مستضدين رئيسيين على سطح خلايا الدم الحمراء، وهما المستضد A والمستضد B، ووجود أو غياب أجسام مضادة مقابلة لهما في البلازما.
بناءً على ذلك، يتم تصنيف الدم إلى أربع فصائل رئيسية ضمن نظام ABO:
-
فصيلة الدم A:
-
المستضدات على خلايا الدم الحمراء: تحتوي على المستضد A.
-
الأجسام المضادة في البلازما: تحتوي على أجسام مضادة لـ B (Anti-B). هذا يعني أن جهاز المناعة لدى الشخص ذي الفصيلة A سيتعرف على خلايا الدم من الفصيلة B أو AB كأجسام غريبة ويهاجمها.
-
-
فصيلة الدم B:
-
المستضدات على خلايا الدم الحمراء: تحتوي على المستضد B.
-
الأجسام المضادة في البلازما: تحتوي على أجسام مضادة لـ A (Anti-A). وبالتالي، سيتعرف جهاز المناعة على خلايا الدم من الفصيلة A أو AB كأجسام غريبة.
-
-
فصيلة الدم AB:
-
المستضدات على خلايا الدم الحمراء: تحتوي على كلا المستضدين A و B.
-
الأجسام المضادة في البلازما: لا تحتوي على أي أجسام مضادة لـ A أو B. هذا يجعلهم "مستقبلين عامين" نظريًا ضمن نظام ABO، حيث يمكنهم استقبال الدم من جميع الفصائل الأخرى دون أن تهاجم أجسامهم المضادة خلايا الدم المنقولة (لأنهم لا يملكون هذه الأجسام المضادة من الأساس).
-
-
فصيلة الدم O:
-
المستضدات على خلايا الدم الحمراء: لا تحتوي على أي من المستضدين A أو B.
-
الأجسام المضادة في البلازما: تحتوي على أجسام مضادة لكل من A (Anti-A) و B (Anti-B). هذا يجعلهم "مانحين عامين" نظريًا ضمن نظام ABO، حيث يمكن نقل خلايا دمهم الحمراء (التي لا تحمل مستضدات A أو B) إلى جميع الفصائل الأخرى دون أن تتعرف عليها الأجسام المضادة للمستقبل.
-
عامل ريسوس (Rh): الإضافة الحاسمة
بالإضافة إلى نظام ABO، هناك نظام مستضدات آخر بالغ الأهمية وهو عامل ريسوس، والذي يُعرف أيضًا بالمستضد D. تم اكتشافه لاحقًا بعد نظام ABO، وأضاف طبقة أخرى من التعقيد والدقة في تحديد فصائل الدم.
-
Rh موجب (Rh+): إذا كانت خلايا الدم الحمراء للشخص تحتوي على المستضد D (عامل ريسوس)، فإن فصيلة دمه تعتبر موجبة العامل الريسوسي. معظم الناس (حوالي 85%) هم Rh موجب.
-
Rh سالب (Rh-): إذا كانت خلايا الدم الحمراء للشخص لا تحتوي على المستضد D، فإن فصيلة دمه تعتبر سالبة العامل الريسوسي. الأشخاص ذوو الفصيلة Rh سالب لا يمتلكون أجسامًا مضادة لعامل ريسوس (Anti-D) بشكل طبيعي في بلازما دمهم. ومع ذلك، يمكن لجهازهم المناعي أن ينتج هذه الأجسام المضادة إذا تعرضوا لدم Rh موجب، على سبيل المثال، من خلال نقل دم خاطئ أو أثناء الحمل إذا كان الجنين Rh موجب والأم Rh سالب.
دمج نظام ABO وعامل ريسوس: فصائل الدم الثمانية الشائعة
عند دمج نظام ABO مع عامل ريسوس، نحصل على ثماني فصائل دم رئيسية معترف بها عالميًا، وهي التي نسمع عنها بشكل شائع:
-
A+ (A موجب)
-
A- (A سالب)
-
B+ (B موجب)
-
B- (B سالب)
-
AB+ (AB موجب)
-
AB- (AB سالب)
-
O+ (O موجب)
-
O- (O سالب)
تعتبر فصيلة O سالب (O-) هي "المتبرع العام الحقيقي" لخلايا الدم الحمراء، حيث لا تحتوي خلايا دمهم على مستضدات A أو B أو Rh، مما يقلل من احتمالية حدوث تفاعل مناعي لدى معظم المستقبلين.
بينما تعتبر فصيلة AB موجب (AB+) هي "المستقبل العام الحقيقي" لخلايا الدم الحمراء، حيث لا تحتوي بلازما دمهم على أجسام مضادة A أو B أو Rh (بشكل طبيعي)، مما يمكنهم من استقبال خلايا الدم الحمراء من جميع الفصائل الأخرى. تجدر الإشارة إلى أن هذا ينطبق بشكل أساسي على خلايا الدم الحمراء المكدسة؛ عند نقل البلازما أو الدم الكامل، تصبح الاعتبارات أكثر تعقيدًا.
كيف يتم تحديد فصيلة الدم في المختبر؟ (اختبار التراص)
يتم تحديد فصيلة الدم في المختبر من خلال عملية بسيطة وسريعة نسبيًا تُعرف باسم اختبار التراص (Agglutination test) أو اختبار تحديد الفصيلة (Blood Typing). يتضمن هذا الاختبار خلط عينة صغيرة من دم الشخص مع محاليل تحتوي على أجسام مضادة معروفة.
تتم العملية عادةً على خطوتين رئيسيتين:
-
التنميط الأمامي (Forward Typing):
-
يتم أخذ قطرات من دم الشخص وخلطها بشكل منفصل مع محاليل تحتوي على أجسام مضادة لـ A (Anti-A sera) وأجسام مضادة لـ B (Anti-B sera).
-
الملاحظة: إذا حدث تراص (تكتل أو تخثر) لخلايا الدم الحمراء عند خلطها مع مصل Anti-A، فهذا يعني أن خلايا الدم تحتوي على المستضد A.
-
إذا حدث تراص عند خلطها مع مصل Anti-B، فهذا يعني أن خلايا الدم تحتوي على المستضد B.
-
إذا حدث تراص مع كلا المصلين، فهذا يعني وجود المستضدين A و B (فصيلة AB).
-
إذا لم يحدث تراص مع أي من المصلين، فهذا يعني عدم وجود أي من المستضدين A أو B (فصيلة O).
-
يتم إجراء اختبار مماثل باستخدام مصل يحتوي على أجسام مضادة لـ D (Anti-D sera) لتحديد عامل ريسوس. إذا حدث تراص، يكون الشخص Rh موجب؛ وإذا لم يحدث، يكون Rh سالب.
-
-
التنميط العكسي (Reverse Typing):
-
يتم فصل بلازما دم الشخص (التي تحتوي على الأجسام المضادة الطبيعية) وخلطها بشكل منفصل مع خلايا دم حمراء معروفة من الفصيلة A وخلايا دم حمراء معروفة من الفصيلة B.
-
الملاحظة: إذا حدث تراص عند خلط البلازما مع خلايا A، فهذا يعني أن البلازما تحتوي على أجسام مضادة لـ A (Anti-A)، مما يشير إلى أن الشخص من الفصيلة B أو O.
-
إذا حدث تراص عند خلط البلازما مع خلايا B، فهذا يعني أن البلازما تحتوي على أجسام مضادة لـ B (Anti-B)، مما يشير إلى أن الشخص من الفصيلة A أو O.
-
يساعد التنميط العكسي على تأكيد نتائج التنميط الأمامي ويوفر فحصًا إضافيًا للدقة. لا يتم إجراؤه عادةً لحديثي الولادة لأن جهازهم المناعي لم يطور بعد هذه الأجسام المضادة بشكل كامل.
-
تعتبر نتائج كلا الاختبارين (الأمامي والعكسي) متكاملة، ويجب أن تتطابق لتأكيد فصيلة الدم بشكل قاطع.
وراثة فصائل الدم: كيف تنتقل من الآباء إلى الأبناء؟
تُورث فصائل الدم من الآباء إلى الأبناء وفقًا لقوانين الوراثة المندلية. الجينات المسؤولة عن تحديد فصائل الدم ضمن نظام ABO تقع على الكروموسوم رقم 9، ولكل شخص نسختان من هذا الجين (أليل واحد من كل والد). هناك ثلاثة أليلات رئيسية لهذا الجين: A، B، و O.
-
الأليلان A و B سائدان (Codominant)، مما يعني أنه إذا ورث الشخص كلا الأليلين A و B، فسيعبر عن كليهما (فصيلة الدم AB).
-
الأليل O متنحٍ (Recessive)، مما يعني أنه لكي تكون فصيلة دم الشخص O، يجب أن يرث أليل O من كلا الوالدين (OO).
-
إذا ورث الشخص أليل A من أحد الوالدين وأليل O من الآخر (AO)، فستكون فصيلته A لأن A يسود على O.
-
إذا ورث الشخص أليل B من أحد الوالدين وأليل O من الآخر (BO)، فستكون فصيلته B لأن B يسود على O.
بالنسبة لعامل ريسوس، الوضع أبسط قليلاً. الجين المسؤول عن عامل ريسوس له أليلان رئيسيان: D (موجب، سائد) و d (سالب، متنح).
-
إذا ورث الشخص أليل D واحدًا على الأقل (DD أو Dd)، فسيكون Rh موجب.
-
لكي يكون الشخص Rh سالب، يجب أن يرث أليل d من كلا الوالدين (dd).
يمكن استخدام هذه المبادئ الوراثية للتنبؤ بفصائل الدم المحتملة للأبناء بناءً على فصائل دم الوالدين، وأحيانًا في اختبارات الأبوة (على الرغم من أن اختبار الحمض النووي DNA أكثر دقة لهذا الغرض).
لماذا يعتبر معرفة فصيلة دمك أمرًا بالغ الأهمية؟
معرفة فصيلة الدم ليست مجرد معلومة عابرة، بل لها تطبيقات حيوية:
-
عمليات نقل الدم: هذا هو السبب الأكثر أهمية. نقل دم غير متوافق يمكن أن يؤدي إلى تفاعل مناعي خطير يهدد الحياة، حيث تهاجم أجسام المستقبل المضادة خلايا الدم الحمراء المنقولة، مما يؤدي إلى تكسرها (انحلال الدم) وفشل الأعضاء.
-
الحمل: إذا كانت الأم Rh سالب والجنين Rh موجب (ورثه من الأب)، فقد يحدث ما يسمى بـ "عدم توافق عامل ريسوس". خلال الولادة الأولى (أو أي نزيف سابق)، قد تختلط كمية صغيرة من دم الجنين بدم الأم، مما يحفز جهاز مناعة الأم على إنتاج أجسام مضادة لعامل ريسوس (Anti-D). في الأحمال اللاحقة بجنين Rh موجب، يمكن لهذه الأجسام المضادة أن تعبر المشيمة وتهاجم خلايا دم الجنين، مسببةً مرض انحلال الدم الوليدي (HDN)، وهو حالة خطيرة. يمكن الوقاية من ذلك عن طريق حقن الأم Rh سالب بحقنة الغلوبيولين المناعي Rh (RhoGAM) خلال الحمل وبعد الولادة.
-
زراعة الأعضاء: تلعب فصائل الدم دورًا في توافق الأعضاء المزروعة، على الرغم من أن هناك عوامل توافق نسيجي أخرى أكثر أهمية.
-
التبرع بالدم: معرفة فصيلتك تشجع على التبرع بالدم، خاصة إذا كانت من الفصائل النادرة أو "المانح العام".
-
بعض الدراسات الوبائية: ربطت بعض الدراسات بين فصائل دم معينة وزيادة طفيفة في خطر الإصابة ببعض الأمراض أو التعرض لمضاعفات معينة، لكن هذه الارتباطات لا تزال مجال بحث وليست حاسمة لاتخاذ قرارات علاجية.
فصائل الدم النادرة: ما وراء ABO و Rh
على الرغم من أن نظامي ABO و Rh هما الأكثر أهمية سريريًا، إلا أن هناك المئات من المستضدات الأخرى التي يمكن أن توجد على سطح خلايا الدم الحمراء، مما يؤدي إلى وجود العديد من فصائل الدم النادرة. بعض هذه الأنظمة تشمل Kell، Duffy، Kidd، و MNS.
تصبح هذه المستضدات النادرة مهمة بشكل خاص للأشخاص الذين يحتاجون إلى عمليات نقل دم متكررة، حيث قد يطورون أجسامًا مضادة لهذه المستضدات الأقل شيوعًا. في حالات نادرة جدًا، قد يفتقر الشخص إلى جميع مستضدات Rh (Rh null أو "الدم الذهبي")، وهي حالة نادرة للغاية تجعل العثور على دم متوافق أمرًا صعبًا للغاية.
خاتمة: بصمتك الدموية الفريدة
إن تحديد فصيلة دمك هو عملية تكشف عن بصمة بيولوجية فريدة، تحددها تركيبة معقدة من المستضدات والأجسام المضادة الموروثة. فهم كيفية تحديد هذه الفصائل لا يساعد فقط في ضمان سلامة الإجراءات الطبية الحيوية مثل نقل الدم، بل يفتح أيضًا نافذة على تعقيدات جهازنا المناعي وتراثنا الجيني. إنها شهادة على دقة العلم في كشف أسرار الجسم البشري، وهي معلومة أساسية يجب على كل فرد معرفتها عن نفسه. فإذا لم تكن تعرف فصيلة دمك بعد، فقد حان الوقت لإجراء هذا الاختبار البسيط الذي قد ينقذ حياتك أو حياة شخص آخر يومًا ما.
يجب عليك تسجيل الدخول لنشر تعليق.